حفل أولمبياد باريس- بين الإبهار والجدل.. دروس في احترام المقدسات

بينما كانت أنظار العالم متجهة نحو فرنسا، ترقب استعراضًا باهرًا لإرثها الثقافي والحضاري، تفاجأ الجميع بغياب لافت لـ "فلاسفة التنوير" الذين أرسوا دعائم مجدها، وتغييب لكل من قدم إسهامات جليلة للإنسانية جمعاء. وبدلًا من ذلك، برزت محاولات لفرض رؤى و"أذواق" خاصة على المشهد العالمي، الأمر الذي كاد أن يحول حفل افتتاح الألعاب الأولمبية إلى هدف مُسجل، لكن بعد مراجعة تقنية الفيديو، اتضح وجود تسلل.
كان بوسع حفل باريس أن يتحول إلى لوحة فنية آسرة، تبدأ باستعراض مبهر على ضفاف نهر السين الخالد، مرورًا بلوحة الفارس المضيء العدو على صهوة جواده بأشعة الليزر الباهرة، وانتهاءً بحامل السيف الذي يجوب أرجاء باريس وشوارعها العتيقة، وصولًا إلى متحف اللوفر الشهير.
يشير المشهد إلى فرسان فرنسا الأسطوريين المعروفين بـ Les Mousquetaires، والذين خلد ذكرهم الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما في رائعته الروائية. حامل السيف هنا يحيي شخصيات قابعة داخل اللوحات، ليمنحها الحياة ويحررها من جمود التحنيط الذي فرضه الرسام، في مشهد سريالي بديع. كما يستدعي الحفل أقبية باريس المظلمة، كما تجسدت في رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو، ليبعث برسالة مفادها أن باريس ليست مجرد ما يظهر على السطح، بل هي مدينة تعجّ بالحياة الصاخبة والاضطرابات الداخلية.
حاول الحفل أن يعكس التنوع الثقافي والعرقي الذي حرص المخرج على إبرازه، ولكن ربما بشيء من التكلف. إلا أن بعض الفقرات المنتقاة بعناية، أفقدت الحفل رونقه وجاذبيته، بل جعلته "مقززًا" وفقًا لتقييمات موضوعية من منابر إعلامية غربية بارزة. تستدعي هذه التظاهرة الوقوف مليًا عند ثلاث فقرات على الأقل، أثارت جدلًا واسعًا، وأساءت إلى حفل كان بالإمكان أن يكون استثنائيًا بكل المقاييس:
- أولًا: فقرة "العشاء الأخير" التي جسدت الأدبيات الكنسية، حيث ظهر شخص شبه عار، يعتمر إكليلًا من الشوك، وهو ما اعتبره الكثيرون إشارة واضحة إلى المسيح عليه السلام.
- ثانيًا: مشهد رأس الملكة ماري أنطوانيت والدماء تنزف من حولها بغزارة، وقد ارتبط هذا المشهد بعنوان "الحرية".
- ثالثًا: الترويج الضمني للمثلية الجنسية من خلال الألوان الزاهية والإيحاءات في بعض الفقرات.
لا مجال هنا للحديث عن أداء الفقرات الفنية والموسيقى التي اختارها المنظمون، أو الأغاني المنتقاة والمغنين الذين قاموا بأدائها، أو حتى عروض الأزياء. ففي هذه الأمور تختلف الأذواق والتقييمات، وهنا نتبنى المبدأ القائل بأن "الأذواق لا تُناقش" كما يقول المثل الفرنسي، أو "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع" كما يعبر عنه المثل العربي.
لكن، يجب التوقف عند الفقرات التي أثارت ضجة كبيرة، مثل فقرة "العشاء الأخير" التي تصور المسيح، والطريقة المبتذلة التي قُدّمت بها.
في البداية، وبعد ظهور أولى الانتقادات، تذرع المنظمون بحرية التعبير التي يكفلها القانون في دولة علمانية، تتيح للجميع حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد. لكن سرعان ما تغير موقفهم أمام موجة الاستنكار العارمة، ليَدَّعوا أن الفقرة تشير إلى "دينوزوس"، إله المتعة والخصب في الأساطير الإغريقية.
لم تقتصر الإدانات على جماعات "المتشددين الإسلاميين" أو "المتعصبين المسيحيين" أو اليمين المتطرف، بل شملت طيفًا واسعًا من الأصوات العالمية. ولم تكن مجرد آراء عابرة، بل تطورت إلى سحب شركات كبرى لرعايتها للحفل.
أمام هذا السيل من الإدانات، لم يجد المنظمون مفرًا من تقديم اعتذار رسمي. كان من الممكن أن يستمر الجدل حول حفل الافتتاح، ويطغى على التظاهرة بأكملها، لولا هذا الاعتذار الذي أنقذ الموقف. ومع ذلك، فإن الاعتذار لا يمحو النقاش حول بعض القيم التي حاول منظمو الحفل الترويج لها.
تضمن الحفل دعوة إلى الحب، وهذا أمر نبيل، ولكنه أغفل الإشارة إلى السلام في زمن الحروب!
لا شك في علمانية فرنسا، ومبدأ حرية التعبير، والثقافة السائدة هناك، أو لدى بعض الشرائح الاجتماعية. ولا ننكر حق البعض في السخرية من المقدسات، ولكن العلمانية لا تعني الاستهزاء بالدين، وحرية التعبير لا تبرر التعريض بالآخرين. فالألعاب الأولمبية ليست عرضًا يقام في أوبرا باريس، أو ضمن فعاليات مهرجان أفينيون، أو برعاية بلدية فرنسية، أو حتى جامعة. بل هي تظاهرة دولية تقام على أرض فرنسا، وليس من الحكمة إقحام تصورات ومعتقدات خاصة فيها، كالسخرية من المقدسات، وازدراء الأديان، أو الترويج للانحلال الأخلاقي.
من المؤكد أن الثورة الفرنسية هي شهادة ميلاد فرنسا الحديثة، والتي بدأت بمظاهرات في سجن الباستيل، وتلطخت بالدماء، تلتها فترة عُرفت بـ "عهد الإرهاب" مع روبسبيير. وقبل ذلك، قُطع رأس لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، وأطاحت المقصلة برؤوس النبلاء، والتهمت الثورة أبناءها.
هذا جزء من التاريخ، ولكن تقديم مشهد مصور لماري أنطوانيت وهي تحمل رأسها المقطوع، والدماء تتناثر من حولها، ثم الربط بين هذا المشهد وعنوان "الحرية"، وهو الركيزة الأساسية لشعار الدولة الفرنسية، هو أمر يثير الكثير من الجدل. أليس إظهار الرأس منفصلًا عن الجسد نوعًا من تمجيد العنف، أو على الأقل تطبيع معه؟ وهل تتفق صورة الرأس المقطوع مع دعوات التسامح التي يتبجح بها بعض "المفكرين"؟ وهل يلتقي مبدأ الحوار مع الدماء المتدفقة تحت عنوان الحرية؟
يغيب عن الحفل أولئك الذين غذوا بذرة الحرية من فلاسفة التنوير... يغيب فولتير وروسو، ويغيب من صنعوا مجد فرنسا – مثل لافوازييه وباستور – وغيرهم ممن قدموا خدمات جليلة للبشرية، ويحضر من يمتعون فئة معينة، من خلال ذوق خاص قد يجده البعض مبتذلًا. أين هي هوية فرنسا؟ ومن يمثلها؟ هل هم قمم الفكر والعلم، أم أصحاب المتعة والتسلية؟
جميل التذكير بقيمة الحرية في الحفل، ولكن ليس من خلال مشهد يرمز إلى العنف. لماذا لم يتم استلهام شخصية الطفل "غافروش" من رواية "البؤساء" لهوغو، وهو يهتف بحماس للحرية والمساواة، ويتغنى بفولتير وروسو، ويصدح بالنداء، في صورة مدح تحمل في طياتها ذمًا: "إنه خطأ فولتير، إنه خطأ روسو".
القيم والأهداف الأساسية للحفل
من طبيعة التظاهرات الرياضية ألا تحمل خطابًا سياسيًا، ولا توجهًا عقائديًا، ولا أيديولوجيًا، فضلًا عن التوجهات الجنسية الخاصة. فالألعاب الأولمبية ليست ساحة للتظاهر وحمل اللافتات، أو لبث توجهات معينة. إن العيب الأساسي في الحفل ليس الترويج للمثلية الجنسية، بل تحويل مسار تظاهرة رياضية عالمية عن غايتها النبيلة.
كانت الفرصة سانحة للوقوف عند قيمة التضامن، التي أضعفتها النيوليبرالية المتطرفة، والتي تسببت في اهتزاز فرنسا مع احتجاجات أصحاب السترات الصفراء. وكان الأجدر بالحفل أن يولي قضايا البيئة اهتمامًا خاصًا، خاصة وأن فرنسا كانت من أوائل الدول التي استضافت فعاليات كأس العالم.
تضمن الحفل دعوة إلى الحب، وهو أمر رائع، لكنه لم يتضمن أي إشارة إلى السلام في زمن الحروب والنزاعات.
مناقشة حرية التعبير
وبغض النظر عن مجريات التظاهرة، نعود إلى مبدأ يُساء استخدامه في كثير من الأحيان، وهو حرية التعبير. لا ينبغي لحرية التعبير أن تكون ذريعة للمساس بالمقدسات والرموز الدينية، والاستهزاء بها، خاصة في المحافل العامة والتظاهرات العالمية. فمن حق أي شخص ألا يؤمن بشيء، ولكن ليس من حقه أن يتعرض لما يؤمن به الآخرون.
إنها فرصة مواتية للأمم المتحدة لتبني توجهات تجرم كل أشكال الاستهزاء بالدين، وازدراء رموزه وطقوسه ومرجعياته، مهما كان شكل هذا الازدراء والتعريض، حتى لا يتم التذرع بحرية التعبير. وهي فرصة أيضًا للهيئات المسؤولة عن تنظيم الفعاليات الرياضية لوضع قوانين تحظر كل ما يمس المعتقدات الدينية، أو يروج لقضايا خلافية، أو يخدش الأخلاق العامة.
لا يتعلق الأمر في حفل الافتتاح بفرض نمط معين، وإلا فقد الحفل جوهره الخاص بغياب ثقافة البلد المضيف. فقد استمتع المشاهدون بعروض رائعة من الثقافة الصينية الأصيلة، كما رأينا في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في الصين عام 2008، مع عروض التنين والألعاب النارية. فالهدف الأساسي من الحفل هو إبراز القواسم المشتركة بين البشر، من خلال أدوات ثقافية خاصة بكل بلد. فالتظاهرات الرياضية تذكرنا بأن البشرية أسرة واحدة، تتعارف من خلال المنافسات.
لكن ما حدث في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، هو فرض رؤية المنظمين، ليس على الحفل فحسب، بل على العالم أجمع من خلال هذا الحفل. كان بإمكانهم فعل ذلك في مهرجان فني أو عرض مسرحي، وليس في مناسبة عالمية يتابعها العالم على الهواء مباشرة.
نتذكر جيدًا كيف ثارت الدنيا ولم تهدأ عندما قُدِّم "البشت" للاعب ليونيل ميسي أثناء مراسم تسليم كأس العالم في مونديال قطر. وكرر أولئك الذين يدعون الحرص على المونديال – بشكل مقزز – مقولة أن المونديال حدث عالمي، ولا يمكن حرمان المشجعين في الملاعب من البيرة، أو التضييق على حرية المثليين، أو فرض تصورات البلد المضيف. وبالمنطق نفسه نقول، إن الألعاب الأولمبية تظاهرة عالمية، ولا يمكن فرض تصورات البلد المضيف، أو شريحة منه، على العالم أجمع.
لقد تحقق في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس ما يقوله المثل الفرنسي: "الأحسن عدو الحسن". كان المنظمون يطمحون إلى تقديم شيء فريد يدخل التاريخ، وبالفعل سيدخل الحفل التاريخ، ليس من خلال فقراته الفنية، بل من خلال التجاوزات ومحاولات فرض تصورات خاصة على العالم. وينبغي أن يستمر النقاش بعد انتهاء التظاهرة، من أجل تبني قوانين تحترم المعتقدات الدينية ولا تستهزئ بها، وتقديم عروض لا تخدش الأخلاق العامة.